(وم ع )
ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، اليوم الجمعة بالقصر الملكي بمدينة الرباط، الدرس السابع من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية.
وألقى الدرس بين يدي صاحب الجلالة، الأستاذ يوسف كيزويت، أستاذ بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، متناولا بالدرس والتحليل موضوع : “تدبر آيات الله بين الخلق والحق”، انطلاقا من قول الله تعالى : “خلق الله السماوات والأرض بالحق، إن في ذلك لآية للمومنين”.
واستند الباحث في درسه إلى الأسس الفكرية لعارف مغربي أندلسي فريد لم يحظ بكثير من الاهتمام، هو أبو الحكم بن برجان، دفين مراكش، والمعروف ب “سيدي برجال”، الذي يعد باعتراف معاصريه أبرز عارف في القرن السادس الهجري، وأكثر تأثيرا. وكان يحث على مركزية الطبيعة في الحياة الروحية للمؤمن، والحاجة اليوم إلى تعزيز هذه العلاقة الروحية بالبيئة.
وتناول الباحث درسه من خلال ثلاثة محاور شملت تحليل الآية الكريمة “خلق الله السماوات والأرض بالحق، إن في ذلك لآية للمومنين”، ثم كيفية تدبر آيات الله المخلوقة والمتلوة من فكر ابن برجان ليختم بمعالجة مفهومه للبيئة انطلاقا من فهمه لمبدأ التطابق الثلاثي بين البيئة والقرآن والانسان.
وشدد على أن القرآن الكريم يتعمد اللفت إلى الآيات الكونية التي تحيط بالانسان ويحث المؤمن على تجديد النظر والتفكر في آيات الله والأمثال العظيمة الدالة على بديع صنعه. وذكر بأن الرسول الكريم كان سيد المعتبرين في آيات الله، ولم يفقد الدهشة إزاء الخلق. وخلص في هذا الباب إلى أن الاعتبار، حسب ابن برجان، من أرقى العبادات، وبه يستحضر مراد الله من خلقه، لأن عالم الخلق يحمل لمسة الخالق في جوهره.
وتعريفا بابن برجان، قال المحاضر إنه كان مدرسة عرفانية مغربية اتخذت اسم “المعتبرين في آيات الله”، وكان اتجاههم المنهجي يركز على أهمية آيات الله في الخلق. ورأى أنه كان يعيش بل يتنفس أصول التصوف السني الجنيدي النابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مع امتلاكه لاستقلالية فكرية فريدة، وقدرة على التنقل بين مختلف العلوم النقلية والعقلية. وكان يعلم أتباعه أهمية الاتصال المباشر بالبيئة لأنها تغذي الروح.
وأبرز الباحث أن طريقة تفكير المعتبرين المغاربة ونظريتهم البيئية في غاية التناسق والشمولية، فهو منظور فكري أصيل وجدير بأن يدرس بتمعن.
وأضاف المحاضر أن الحق المخلوق من منظور مدرسة المعتبرين هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها معرفة الله في الخلق لأنه لا يتم في نهاية المطاف التعرف على الله إلا من خلال صفاته العلى، ولا يتم الوصول لتلك الصفات إلا من خلال معاني أسمائه الحسنى، ولا يتم التعرف عليها إلا من خلال آثارها في الكون، وجملة هذه الآثار معبر عنها بهذا الحق القرآني، مبرزا أن الغرض الرئيس من جل سور القرآن هو تذكير القارئ بالحق المخلوق به.
وقال الأستاذ المحاضر إن الحق المخلوق به ينبه عن عودة الأمور إلى أصلها، وعن التجلي الإلاهي العلي يوم القيامة، والإقرار بهذا الحق هو “أم الشهادات وعمدتها” إذ هو إقرار بالآخرة، وترقب للجنة، واستعداد للقاء العلي، وجها لوجه، بين العبد وربه يوم الحساب.
وأشار إلى أن المبدأ الثاني عند المعتبرين هو مبدأ التطابق الثلاثي بين البيئة والقرآن والإنسان، إذ يمكن بشكل أساسي تقسيم الوجود إلى قسمين : الله وما سوى الله، أو الله والتجليات الإلاهية، وعالم ما سوى الله يشبه سهما صادرا عن الله ومسيرا إليه في آن واحد، مبرزا، في هذا الصدد، أن عالم ما سوى الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو ثلاثة كتب أساسية : كتاب الخلق وهو عالم البيئة، وكتاب القرآن وهو عالم الوحي، وكتاب الإنسان وهو العالم الصغير الذي علم الأسماء كلها، ويفصح كل كتاب أو قسم من أقسام الوجود الثلاثة عن كمالات الذات الإلاهية بشكلها الخاص ويعرب عنها بكيفيات متباينة.
ومن هنا، يقول المحاضر، ينشأ مبدأ التطابق الثلاثي الذي يراه المعتبرون في آيات الله بين البيئة والإنسان والقرآن، إذ لا يوجد التطابق بين الأعلى والأسفل فحسب، أي بين الدنيا والآخرة، بل إن التطابق يوجد في التجليات الإلاهية الثلاثة : البيئة والإنسان والوحي.
وأضاف أن طريقة المعتبرين صاغت في التفكير الترابطي مقاربتهم لتفسير القرآن واهتمامهم بالطبيعة وانفتاحهم على مختلف العلوم المتعلقة بالإنسان والكون، مع تمسكهم الشديد بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، مقدما، في هذا السياق، بعض الأمثلة لمبدأ الترابط الثلاثي عند المعتبرين، حيث يتخلل التناسق كل أقسام الوجود، فإذا تم تأمل عالم البيئة سيلاحظ أن كل عنصر من عناصره يتفاعل ويتكامل بنظيره وفق سنن الله في الكون، ويتضح هذا التناسق من الحركة الدائرية للكواكب، واعتماد الموجودات بعضها على بعض. وهذا التناسق بصمات من بصمات الخالق تعالى.
وأضاف المحاضر أن المتصوفين لاحظوا أن القاسم الجمالي المشترك بين الكتب الثلاث هي البيئة ، محل تجلي أسماء الله الحسنى ، والإنسان ، الذي خلقه الله في أحسن تقويم ، والقرآن ، الذي يتسم بجمال إعجازي بنيوي تركيبي وبلاغي.
وأشار إلى أن ابن برجان لاحظ أوجه التوازي والتطابق الثلاثي بين البيئة والوحي والإنسان التي صدرت جميعها عن نفس الأمر الإلهي، وتحمل آثارا من أسماء الله موضحا أن الجمال أصيل في الإنسان والقداسة جوهرية في القرآن والحق ملازم للخلق.
ونقل عن المتصوفين المتأخرين تعبيرهم ، من خلال تدبر القرآن ، عن البعد الإيحائي للبيئة (القرآن التكويني) والبعد البيئي للقرآن (الوحي التدويني) وتطابق الإنسان (العالم الصغير) في ما بينهما ، مستخلصا أن كل شيء مرعي بقانون التوازن والترابط .
وبخصوص آيات الله الخاصة، أوضح المحاضر أنه في غضون أقسام الوجود الثلاثة توجد آيات مركزية، أو خاصة بالله، وتدل دلالة حصرية على الله من قبيل الشمس والقمر التي تنبه إلى الحضرة الإلهية والتجلي العلي يوم القيامة.
واستنتج من فكر مدرسة المعتبرين أن دراسة بنية الكون تكمل دراسة بنية القرآن وأن الاعتناء بالبيئة تكملة للاعتناء بالدين، مؤكدا أن أزمة البيئة تنبه عن أزمة العلاقة بالقرآن “إذ الكل متناسق ، وجميع العلوم تزيد المؤمن إيمانا على إيمانه”.
وخلص المحاضر إلى أن المغرب كان ولايزال بفضل الله، أرضا خصبة لروحانية متأصلة وفكر إسلامي منسجم ومستقل، وأن “تراث المعتبرين في آيات الله يمثل وجها من وجوه إرثنا المغربي الغني، ثم إننا في حاجة لإعادة التفكير في علاقتنا بالبيئة وبالقرآن وبأنفسنا. وإن تراث المعتبرين بتناسقه الفكري الجميل، يسلط الضوء على هذه الأسئلة، ويمكنه أن يلعب دورا إرشاديا في مواجهتنا لتحديات الأزمة البيئية، لأن الأزمة في الأصل أزمة روحية وعقائدية، وكم هي حاجتنا اليوم إلى إحياء هذا النوع من الوعي البيئي والفكر الترابطي”.
وفي ختام هذا الدرس تقدم للسلام على أمير المؤمنين الأساتذة الشريف محمود أحمد حسين الشريف، نقيب السادة الأشراف والوكيل الأول لمجلس النواب المصري، وعبد الله محمد جاسي، الأمين العام للمجلس الإسلامي الأعلى ووزير سابق للشؤون الدينية بغينيا كوناكري، وقيس بن محمد آل الشيخ مبارك، أستاذ بجامعة الملك فيصل وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وعبد الهادي هنركامب، أستاذ بجامعة جورجيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وإبراهيم مقري، عضو هيئة الإفتاء بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وعضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بنيجيريا.
كما تقدم للسلام على أمير المومنين الأساتذة ذكر الرحمان، أستاذ جامعي ومدير المركز الثقافي الإسلامي للهند، وحميدو علي من علماء مدغشقر، وعضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بمدغشقر، والشيخ فومبا أبو بكر صواري، مدير محطة إذاعة صوت الإسلام، وعضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالسيراليون، ومحمد المختار بن امباله من علماء موريتانيا، وأرشد محمد، نائب رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجنوب إفريقيا، وحافظ عبد الحنان حامد، أستاذ بأكاديمية الدعوة بمسجد الملك فيصل بإسلام آباد بباكستان، وعلمي عبد الله عطر، مستشار وزير الشؤون الإسلامية والثقافة والأوقاف بدجيبوتي.