فيضانات إسبانيا: سانشيز يعرب عن شكره للمملكة المغربية على دعمها لجهود الإغاثة في فالنسيا
ب
قلم: هشام عابد – باحث في الفكر الإصلاحي
الإهداء إلى: أفلاطون؛ شكرا لأنك علمتنا فن الإصغاء.
عقلية القطيع نص مطالعة كنا قرأناه في إحدى السنوات الدراسية في الإعدادي إن كنت أتذكر، يتحدث عن فئة من الناس يكون مستوى عقلهم متقارب بالشكل الذي يجعلهم وكأنهم في سن 14 من العمر كلهم وهم يشاهدون فيلما سنمائيا في إحدى قاعات العرض.
تذكرت هذا النص وأنا أعيش لقطات تمر بين عيني تعيش فيها شرائح واسعة من مجتمعنا المغربي تسقطه في هذا المأزق ولا غرو أن أحد الأسباب الرئيسية لذلك هي درجة الأمية ونسبة التعلم والوعي الضعيفة، بل والأمية المثقفة أيضا…
من ينكر في المغرب أن ثقافة المقاهي هي الثقافة رقم واحد بالمغرب، فهو مخطئ. وما على المرء إلا تأمل وملاحظة بسيطة لطبيعة التواصل الحاصلة في الشارع والبرامج التلفزية الحوارية وفي المقاهي وخلال الندوات والنقاشات العمومية أو خلال حل النزاعات ليتأكد من الأمر.
ومن تمظهرات هذا الواقع التي تفضح عقلية القطيع وتبرز خصائصه ومميزاته في نفس الآن نقول؛ أن القطيعي يرسم لك صورة بسرعة فائقة ويصدقها ويركن إليها…
وأن القطيعي يخلق لنفسه تحليلا وتفسيرا للأمور ويعيش بداخلها مرتاحا سعيدا.
وأن القطيعي قطعي في الحكم على الأشياء، دون تمحيص وبحث وأخذ ورد…
وأن قبيلة القطيعيين لهم عقلية جمعية موحدة، ولغة خاصة مبتذلة، ومواضيع مكررة…
وأن جماعة القطيعيين تستهويهم نفس الأفلام المبتذلة، وتضحكهم نفس السكيتشات، وتثيرهم نفس المسلسلات والبرامج التافهة…
وأن آرائهم وأفكارهم تتغير جذريا وتنساق وراء ظهور فيديو حول بن لادن، أو حول حقيقة الحرب على العراق أو أفغانستان، أو فيديو يشرح حقيقة الحروب في الوطن العربي اليوم وغايتها، أو فيديو لمشعوذ أو متنبئ بكذا أو كذا، أو خبير روسي أو أمريكي يصرح بكذا أو يكذب كذا…
الشعب القطيعي يجعل من بعض الحلاقين وأصحاب الطاكسيات والخياطة… أكبر العلماء يتحدثون في كل شيء ويفهمون في كل شيء…
الشعب القطيعي يمكن أن يرفع الزاكي إلى أعلى المصاف “الزاكي اوليداتو حتى فرقة ما غلباتو”… وهي نفس الجماهير التي سبت الزاكي و”الزاكي ونوض تقود”..!
والشعب القطيعي يمكن لمقابلة ودية تنتهي بـ 4-0 ضد فريق خصم ضعيف، تجعل منه شعبا يكسر عليك الطاولات ويضرب بالكؤوس ويحلف باحترافية وقوة وبأس المنتخب واستعداده لهزم أعتى الفرق..!
ومع الشعب القطيعي ترى عيناك يوميا في المقاهي المغربية، مواطنين يحللون ويصرخون ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها، وينتقدون خطة المدرب والتغييرات التي قام بها بعنف وصراخ، ويسبون ويلعنون مدربا جلبته الفرقة بملايين الأورو… كل ذلك وهو قاعد في دولة من دول العالم الثالث على كرسي بمقهى وقهوة ب 7دراهم، هو الذي تجده لا يفهم حتى في أساسيات الكرة ومدارسها رغم متابعته لها لأزيد من 15 سنة..!
إنه شعب يؤثث للمهازل ويساهم فيها ويصمت عنها ويبكي عليها فيما بعد… فمن ذا الذي كان يتحدث عن أزمات قبل وقوعها والكثير من المؤشرات والأخطاء تدل عليها كمهزلة كأس إفريقيا الأخير… وأين دور الصحافة؟ وأين دور الطاقم المغربي المرافق؟ لماذا صمت عن التجاوزات في ماربيا..؟ من تحدث عن وجود خلل وتجاوزات في التدبير والتسيير؟ لماذا ننتظر النكبات والانتكاسات للتباكي عليها..؟ “لماذا لا ندق جذران الخزان” قبل فوات الأوان؟ كما وقع لأبطال رواية غسان كنفاني “رجال تحت الشمس”؟ فمن تحدث عن راتب غيريتس من الشعب القطيعي الذي لم ترقه الهزيمة النكراء للمنتخب المغربي؟ “لماذا ننتظر سقوط الذبيحة لنكثر من الجناوة”، لماذا لا ننتقد في الوقت المناسب وننتظر وقوع الكوارث للتباكي عليها، والادعاء أننا كنا أول من نبه أو تحدث عنها في عنجهية فارغة..؟
إنه قطيع كبير يذهب مع نتيجة مقابلة أو ينساق مع فيديو معنون بـ “أدخل وستشاهد ما لم تره عينك أبدا”! أو بـ “خطير جدا” أو “عاجل للغاية” أو “أدخل قبل الحدف”، أو “سري للغاية”، أو “فضيحة ترتلان أو علان”…
ويمكن تشبيه عقلية القطيع بـ”سرب السمك” أو “قطعان الماشية” الذي يسير بنفس الطريقة وبشكل جماعي في نفس الاتجاهات التي يحركها قائد القطيع إن وجد… “الهوا اللي جا يديهم” ويبدو ذلك في مناقشتهم للسياسة أو لكرة القدم أو للشأن العام…
مميزات عامة وصفات رئيسية توحد هذا القطيع البشري المجتمعي وتجعله يمثل نفس الفئة ونفس الفكر ونفس السلوكيات:
صفات مثل “الحربائية”؛ فالشعب يغير مواقفه كما يغير جواربه بلمح البصر ويصرخون ويزبدون ويرعدون حول نفس ما كان يعارضونه بالأمس، يدافعون اليوم عما كانوا يرفضونه بالأمس، وبنفس الحماس.. قد ينتج لك القطيعيون أفكارا متضاربة في يوم واحد أو بعد أسبوع يقلب عليك الطاولة على فكرة كان يستميت في الدفاع عنها في الأسبوع السابق وبنفس الحدة والقوة التي قاتلك بها في المرة السابقة… “والله لا شديتي معاهم شي طريق”! لأن معظمهم يناقش من أجل أن “يحصلك” ومن أجل أن لا يظهر مظهر الخاسر… يحبون دور البطولات في المناقشات والحوارات التي من المفروض لتبادل الأفكار والتحاور وتوسعة المدارك وتصحيح الأخطاء… إنها مسألة عقلية وثقافة مجتمعية وليس أمرا اعتباطيا. فقط..! إعطني مستوى مجتمع ما من التعليم والأخلاق أعطيك مستوى الحوارات والنقاشات.
من ميزاتهم أيضا أنهم، يناقشون بل يحسمون في القضايا والأمور بشكل سريع، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتمحيص وفي أسرع وقت ممكن، وبشكل قوي ولا رجعة فيه…
صفة أخرى هي من سمات القطيعيين؛ وهي أننا كمغاربة نتكلم دفعة واحدة، مع العلم أن النساء وحدهن في الغالب من يتحدثن دفعة واحدة، ولا نوزع الأدوار في الحديث ليشارك الجميع، ويريد كل واحد احتكار الحديث لوحده في مجموعات تصل أعدادها إلى الأربعة والخمسة والستة… نريد قول كل شيء والغوص في التفاصيل دون الانتقاء العام والشامل لما يمكن قوله! نغوص في الشرح ونطنب رغم أن الفكرة لا تحتاج إلا إلى جملة واضحة واحدة و و و، لقد حدثنا أفلاطون قديما جدا عن فن راق وعظيم إسمه “فن الإصغاء” الذي علينا أن نتقنه قبل إتقان “فن الكلام”، لكن يبدو أن لا أحد من المغاربة يريد أن يستمع لك يا أفلاطون ويتعلم فنك الراقي، فعذرا لك، لأننا شعب نموت في الفوضى والهندقة والهرج والمرج والنقاش بصوت عال…
وتجد في جلسة جماعية دارس للبيولوجيا ويكون النقاش دائرا حول موضوع له علاقة بالبيولوجيا ونفس الأمر في الهندسة أو الأركيولوجيا أو الطب أو الفلسفة.. ونلاحظ بشكل عجيب غريب أن الجميع يخوض في تلك المواضيع طولا وعرضا دون الرجوع إلى أصحاب الاختصاص ومحاولة سؤالهم واستفسارهم والسماع منهم كعارفين بميادين تخصصاتهم أكثر من غيرهم… وهذا دليل على بساطة فكر المغربي وعلى أنانيته التي جمعها في كلمة مركبة “الكلخ والأنانية”…
بعضهم يخاف من الظهور بمظهر غير العارف.. وبعضهم الآخر يدعي معرفة كل شيء.. وبعضهم الآخر تكوينه الضحل ووعيه الجاف لا يسمح له برؤية ما يرتكبه من مهازل في عالم التواصل.. والبعض الآخر من المظاهر مرتبط بالتكوين وطبيعة التربية…
ثم أحاديثنا حين نلتقي ونجتمع تتمحور غالبا عند الشعب القطيعي حول شيئين رئيسيين “النميمة والنكاح”، فالمغربي ينتج أطنانا من التحاليل والتقارير النميمية اليومية، وأطنان من الكلام الفاحش والكلمات النابية في الهواء الطلق.
وتنفضح عقليتنا أشدما انفضاح في الأسواق والحمامات، وعلى أبوباب الحافلات وفي المساجد والملاعب وداخل المقاهي… فأينما اجتمعنا هناك هرج ومرج، ويختلط الحابل بالنابل، ويتساوى العالمون والجهال، ويكثر التدافع و”الغنان”، والتنابز بالألقاب، فتخلق أجواء من “الهندقة والجذبة” التي يتطاير فيها اللعاب من الأفواه وتنتفخ فيها الأوردة والأوداج، وتتقطب فيها الأحجبة والجباه، وتتجهم فيها الوجوه…
والمصيبة أن الكل يتحدث عن “عقليتنا المتخلفة”، والكل يتهم الكل بالغباء وعدم الفهم وبـ “قسوحية الراس”، ونكثر في الحديث من كلمة “مافهمتنيش”! بمعنى أن المشكل دائما في الآخر الذي لا يفهم! ولا تسمع أبدا عبارة مثل “يبدو أني لم أتوفق في شرح الأمر لك”، أو “أني فشلت في توضيح الأمر لك على النحو الأمثل”… أمر يجعل وضعية المغاربة ينطبق عليها قول الفيلسوف الإنجليزي ” توماس هوبز” حول أن “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”، وفي صراع دائم معه.
إن الثقافة التي تتسيد المشهد العمومي المغربي هي بكل صراحة ودون خجل؛ هي ثقافة عقلية القطيع، ثقافة المقاهي والتي لا يسلم منها حتى شريحة واسعة من الباحثين والأطر والطلبة والموظفين والأساتذة، مغرب سائب وغير علمي. فهل هو قدرنا كمغاربة أن نكون سائبين وغير جادين في كل شيء؛ ثقافة قشب عليا نقشب عليك هاهاها… ثقافة الابتذال و”الضحك الباسل” و”الدسارة”، ثقافة “النميمة والتبركيك”، ثقافة المقاهي و”البلا بلا”، ثقافة من يتحدثون ولا ينصتون حيث ثقافة الإصغاء هي الغائب الأكبر، ثقافة من يناقش ليربح أحدهم الآخر…
صحيح أنه من الممكن أن نناقش كل شيء، حرية التعبير، والحقوق المدنية والعالمية والإنسانية، وقوانين الحريات العامة تضمن لنا ذلك، لكن لماذا نناقش بشوفينية ووثوقية وبعنف وصراخ وفي كل المواضيع وبنفس الحماس وكأننا علماء؟!
لماذا ننقاش الآخر وكأننا على صواب وفكرتنا مطلقة ولا تناقش؟
لماذا نناقش على أساس أن الآخر”كيعدب راسوا” لأنني على صواب وبالتالي الآخر يضيع وقته!
“علاش كنتغانوا” بدل الدردشة الحميمية والنقاش السلس، لماذا نصرخ بدل الصوت الخفيض؟ ولماذا ولماذا ولماذا…
السبب في نظري أن الأمر لا يدعو إلى التعجب والاستغراب إن علمنا أن القضية مرتبطة بنسبة أمية الجماهير الشعبية، وبجودة التعليم ودرجة الوعي، ومستوى القراءة والثقافة في الوطن… ففاقد الشيء لا يعطيه… وما نعيشه ما هو إلا تحصيل حاصل…
فحين تغيب التربية، والتعليم، والثقافة، والعقلية المتحضرة، والوعي… تحضر كل أنواع الوثوقية، واللاتواضع، وغياب أساسايت التواصل، وعدم امتلاك فن الإصغاء، والادعاء بمعرفة كل شيء وفي كل شيء، ونتحدث دون توقف، وندعي أننا على صواب، فنكون أمام تواصل أعرج معوق وسلبي ينتهي بالشجار ومليئ بـ”البلا بلا” والنتيجة: صفر.
ما نتحدث عنه إذن أمام هذا الوضع البائس؛ هو ضرورة خلق “طبقة مجتمعية وسطى” على مستوى المعرفة والوعي والثقافة. تكون هي عصب المجتمع المدني وعقل وضمير المغرب النابض، في ضل هوية ووعي جمعي متين، والتحصن داخل معرفة يكون معها الأمر برمته بمثابة جسم صلب ومناعة ذاتية للمجتمع المغربي في مواجهة تقلبات وتغيرات العالم الثقافية والتكنلوجية المتسارعة…
ما نطالب به ونسعى إليه هو “ثقافة المواطن المغربي”، تكون بـثابة “طبقة ثقافية وسطى” أو جسر عملاق ورئيسي بين المستوى العالم والنخبوي والمستوى الشعبي “القهوجي” البسيط للفكر… والأمر شبيه بالمحاولة “الجارية” لخلق طبقة وسطى بالمغرب على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، حيث الأمر نفسه ينبغي التفكير فيه بالنسبة لعالم وميدان الثقافة المغربية. إذ على الهوة بين الطبقة العالمة والطبقة البسيطة، بين طبقة “العلماء” وبين طبقة “العامة” أن تتقلص وتتقارب، والرابح هو الوطن.
إن الحديث عن عقلية القطيع هو حديث عن “سيكولوجية الجماعة”، وهي سيكولوجية إيجابية في الدول الحديثة تقترب من لغة الحكمة والتمحيص والملاحظة العلمية البناءة، والمواطنة، والمساهمة بارأي،ولتفاعل لا مجرد الانفعال، والتحليل عن طريق البصمة والرؤيا الشخصية لكل شخص.. بينما في المغرب تبقى إلى حدود اليوم هدامة وسلبية ومعوقة للتنمية والحداثة المغربية المنشودة… وبخلق هذه الطبقة الثقافية الوسطى يقل التخريب وتقل الجرائم وتقل السجون.. وتكثر المدارس والمعامل ويكثر الإبداع ويزداد الأمن… ونبتعد أكثر فأكثر من المواطن السلبي إلى المواطن الفعال…
وبين حلول “الزرواطة” والتدجين المخزني.. وبين التعليم والتربية على المواطنة يقيم وطن ينتظر، ينتظر، ينتظر…