بقلم: زكرياء أوعبي، طالب مهندس في الإلكترونيات
أول ما خرجت به كاستنتاج من هاته الخرجات الإعلامية المكثفة لأعضاء الحكومة الجديدة، وبالخصوص المنتمين منهم إلى الحزب الأول -العدالة والتنمية-، هو أن هؤلاء المسؤولين الجدد فهموا جيداً أن مطالب أبناء الشعب يمكن اختزالها في كلمات معدودة واضحة لا غبار عليها: القرب، الإنصاف، والخبز…
لنقم بتحليل بسيط لتلك الكلمات، فلست أنا الوحيد من سيقر بأن رؤية الوزير أمامك مباشرة من دون حواجز ولا ترتيبات أمنية مشددة كانت وبدون مبالغة من سابع المستحيلات في الحكومات السابقة إلى حدود 25 نونبر من السنة الفارطة، ولست أنا الوحيد من إذا سمع كلمة “وزير” يخيل إلي في لا شعوري أنه شخص مقدس، يلبس من الثياب أحسنها، ويركب من السيارات أفخرها، وإذا كان من من ابتلاهم الله بشرب السجائر فإنه لا يرضى بغير “السيجار” بديلا…
كل هذا كان يخلق لدى الشعب، وخصوصاً لدى الفئات المقهورة اجتماعيا، حالة من انعدام الثقة، نتيجة لهذا البعد، وهذه المسافة الطويلة التي تفصل بينه وبين مواطن صنع القرار؛ ومن ثمة، وتابعا لقاعدة “الحاجة أم الاختراع”، عندما اكتشف المواطن البسيط بأن المظاهرات والإعتصامات أمام مقرات الوزارات، ومجلس البرلمان، والمجالس المحلية القروية والحضرية،أو احتلالها، يمكن أن تسفر (بطبيعة الحال بعد ساعات من القمع والضرب والهرولة والإشتباكات مع قوة الأمن) عن لقاءات قصيرة جداً مع أحد الوزراء أو العمال أو الولاة أو المسؤولي، فإننا أصبحنا دائما ما نرى هاته المشاهد الهوليودية، التي تنتهي في غير ما مرة بنهايات مأساوية، تدخلنا في غياهب أيام الرصاص وتزمامارت، وتذكرنا بانتهاكات الماضي القريب …
لكن كما يقول المغاربة “أحيانا الله حتى شفنا الوزراء ف “طرانات”، أو راكبين ف داسيا ولا تويوتا كورولا” يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهل -وحتى العاقل- قالوا سلاما، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وفوق هذا كله، كشفوا للشعب أنهم “حتى هوما مناقصينش مشاكيل أو كريديات” لدرجة أن كثيراً منهم لا يملكون حتى بيتا، ويركبون على سيارات عادية جداً يمكن لأي موظف بسيط أن يقتنيها، كما رفضوا جل الامتيازات المخولة لهم كوزراء من طرف الدولة…
هاته المشاهد خلقت جواً من إعادة الثقة لأبناء الشعب الذين أصبحوا يلتقون الوزراء أثناء اعتصاماتهم، ويناقشون معهم همومهم بهدوء وتروي، مما جعل سحابة الاحتجاجات والإضرابات تنقشع شيئاً فشيئاً، وتنسج في مكانها شبكة من التعاون والثقة بين الحكومة والشعب… وخير دليل على ذلك، اللقاء الذي جمع وزير العدل والحريات الجديد الأستاذ مصطفى الرميد مع جماعة من المعطلين والأطر العليا حاملي الشهادات، والذي كان صريحاً وبناء، خاليا من البروتوكولات والشكليات الرتيبة التي عهدناها على عهد الوزراء السابقين، بلغة دكالية بسيطة استطاع الوزير إقناع الأطر بأولويات المرحلة وبضرورة صبرهم حتى يتسنى للحكومة القيام بمهامها على الوجه الأحسن…
في هذا كله تتلخص إشكالية القرب التي لطالما خلقت جوا من التوتر بين المواطن البسيط، والهيئات العليا للقرار في السابق، والتي ربما وإلى حد الآن عرف الوزراء الجدد كيفية قلبها لصالحهم بشكل يضمن استقرارا نسبياً في هاته المرحلة الحساسة.
أما الإشكالية الثانية، وهي إشكالية الإنصاف، فتتعلق بالأساس بفقدان الثقة بين مختلف مكونات الشعب، والهيئات المكلفة بالتحكيم والإنصاف بين المغاربة، وفي هذا تتداخل مجالات عديدة، فليس القضاء والعدل هو الوحيد المقصود في بهاته القضية، ولكن كل ما يتعلق بالحقوق الجماعية المخولة عن طريق الاستحقاق، كمباريات التوظيف، وإمتحانات الترقية، وطلبات الإلتحاق بالزوج إلى غيرها من الإشكاليات الأخرى، التي دأبت الحكومات السابقة على التصرف فيها بكامل الإرادة الفردية للمسؤولين الكبار، وتوظيف الزبونية والمحسوبية بخصوصها… ولا حاجة هنا لإعطاء الأمثلة… فالأمثلة كثيرة “طرطقت مرارة الشعب المقهور منذ أول حكومة إلى حدود الحكومات السابقة”.
أما ما بعد 25 من نونبر الماضي، فقد استطاعت الحكومات الجديدة قلب الموازين لصالحها في وقت وجيز، وأعطت مؤشرات إيجابية جداً بهذا الخصوص، تؤكد بأن الأمور تسير على الخط الصحيح، لعل آخرها وأخطرها الحدثين اللذين قام بهما مصطفى الرميد، الأول عندما تكلف شخصيا باعتقال قاض ثبت عليه الارتشاء، والثانية عندما لم يتدخل لفائدة أخيه الذي رسب في امتحان ترقية في وزارة العدل، رغم كونه وزيراً للعدل…
في هاته الأحداث يتضح جلياً أن الحكومة الحالية تتصرف بنوع من الذكاء والتروية، معتمدة خططا واستراتيجيات كفيلة بمنحها ثقة الشعب في أيامها الأولى… وبالتالي تهدئة الأوضاع الداخلية المحتقنة…
أما مسألة الخبز فكما قال أجدادنا الأولون “هاديك حريرتها حريرة”، علما منهم بالتخليطة العجيبة والمعقدة للحريرة التي يتعجب منها أكبر الطهاة والطباخين، فهاته مسألة سهلة المقاربة على الورق، صعبة المنال في الواقع… فالشعب يريد تذوق ثمرتها في العاجل القريب، لكنها على أية حال بعيدة التحقق، لا يمكن أن ترسي ظلالها إلا تدريجيا، وهذا مشكل آخر، يتمثل في عدم وعي النخبة المطالبة بالتوظيف “الفوري والمباشر” -أو بعدم رغبتها بالوعي- بأن هذا المطلب مستحيل التحقق والمنال في الوقت الراهن.
وهذا تحدي كبير بالنسبة للحكومة، فهي إن لم تستطيع أن تقنع المعطلين باستحالة هذا المطلب، وبضرورة إجراء المباريات، فإنها ستظل، رغم ما تحققه من تطورات وانتقالات نوعية وحساسة في حياة المواطن المغربي البسيط من محاربة للفساد وإصلاح للقضاء وغيرها من المسائل الأخرى، فإنها ستظل تواجه هاته الموجات العنيفة من الاحتجاجات والإضرابات التي لن تتوقف إلا بمعجزات من السماء وبمشيئة من الله…
إن هذا الشعب يحتاج إلى مؤشرات قوية تنبئ بالخروج من عهد العبودية والقهر الذي عاش فيه طويلا في عهد الحكومات السابقة، وهذا يشكل أكبر تحدي ل”بنكيران ووليداتو”، تحدي تجديد الثقة بين المواطن والشعب، ووضع أسس الشفافية والتساوي وتقسيم الثروات تقسيما عادلا… وأتمنى أن لا نطلبهم لأمورنا، بل أن نطلب لهم، مصداقا لقول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم :” من طُلب إلى شئ ، أًعين عليه ، ومن طلب شئ وُكل إليه “…